كانت روسيا تعيشُ في حُقبة الفنان فاسيلي كاندينسكي (1886-1944) على إرث الفن المُستورد منِ فرنسا نتجية العلاقات الحضاريّة المُعقدة، وأبرزهُا الحرب والصراع، حيثُ أُشتهرتْ سان بطرسبرغ بطابعها المعماريّ الفرنسيّ، وكنائسها الفرنسيّة الطراز، وبُنيتْ بعضُ الكاتدرائيات على الطراز الغوطيّ الشهير في أوروبا الغربية والشرقيّة على سواء، وقد تأثر كاندينسكي بالفنان كلود مونيه، وخصوصاً لوحته الشهيرة “كومة القش”، وعلى الرغم من الجو الأكاديميّ الرتيب الذي أهمل التعبير عن خلجات نفسه إلا أنّ رُوحهُ الهائمة في الفن والجمال استطاعتْ التوثب خارج هذا المُحيط الذي وصفهُ بالبرجوازيّ المقيت!
الرسم التجريديّ – كما يقولُ كاندينسكي – من بين جميع الفنون التعبيريّة الأخرى هو أصعبُهَا، ويُطالُبَك أن تكونَ ماهراً جداً في الرسم، وفي انتقاء الألوانِ ومزج الألوان والخطوط. ويُضيفُ كاندينسكي أنه لابد أن تكون شاعراً مُفرطاً في الشاعريّة، وهذا أهم ما في الرسم التجريديّ إن لم يكن هو جوهرهُ.
لم يكن كاندينسكي مُجرد رسامٍ ونحات، إنما مُنظر لأشهر حركة فنية برزت وظهرت في القرن العشرين، وهي التعبيرية التجريدية، وتقومُ فلسفتهُ الخاصة على مُعاملة الفن مُعاملة اللغة نفسها، واللغة الشاعريّة على وجه الخصوص، فهي وسيط روحي يعكس عواطف الإنسان المُزمنة، وهي شجن الوجود منذُ أن لثغ الإنسانُ الأبجديّة، وعُمر الفن هو من عُمر الكون والطبيعة، وقد تمرُ فتراتٍ وأعصرٍ من التاريخ يكونُ فيها الفنُ في الحضيض، لكنهُ لا يختفي أبداً، إنما يُمارسُ دورهُ في التعبير عن المُطلق واللامحدود في هذا الوجود.
والمُوسيقى في عُرف كاندينسكي أيضاً هي أرقى أنماط الفن وأنساقه، بل هي كما يقول الأكثر “ترنسدنتالية” من بين جميع أنواع الفن غير الموضوعيّة، فالموسيقي يستطيع أن يثير في عقل المُتلقي والمُستمع من الصور والخيالات والمشاعر ما لا يُثيره شيءٌ آخر فقط عن طريق العزف على آلة مُفردة، وتكونُ المُحصلة هي الإرتقاء بالذائقة الجماليّة، وهُوَ ما سعى إليه كاندينسكي عبر حياته الفنيّة الغنيّة.
رسمَ كانديسنكي العديدَ من اللوحات بالغة الحساسية والذوق، لعلَّ أشهرها لوحة موسكو1، وهي بورتريه لمدينة موسكو قال عنها بأنها تعكسُ الملامح السياحيّة لمدينة موسكو، ورسم كانديسنكي تلك المعالم بطريقة دائريّة كأنها تطلُ على الساحة الحمراء، ويغلبُ على اللوحة اللون الأزرق بمختلف أطيافه ودرجاته، بالإضافة إلى الأبيض والأحمر، وتظهرُ المعالم الشاهقة التي ميزت مباني موسكو في تلك الفترة التاريخية.
ومن التجريديات التعبيريّة المشهورة لوحة “عدة دوائر” التي تتميز بالتجريد العالي، وهي ذات خلفية سوداء داخلها أربعين دائرة تقريباً، مُبعثرة ومتداخلة، وكل دائرة ذات لونٍ مُختلف، وبعضُهَا يُشبه حدقة العين، وقد رسمها كاندينسكي وهو يُشارف على الستين من عُمره.