تداخل التخصصات، الإنسان ذو البعد الواحد
رعد تغوج
أصبحت جميع التخصصات في التعليم العالي تدرس تخصصاً واحداً فقط، مثل علم الأعصاب مثلاً أو التسويق، الإدارة، تاريخ الفن، علم النفس، الأنثروبولجيا. والقائمة تطول ليصبح الموضوع أكثر تخصصا في التعليم العالي (الماجستير والدكتوراة). فنحن نسعى لأن نعلم المزيد والمزيد، عن الدقيق والقليل، والنتيجة هي تخصص دقيق جداً (مثل أن يتخصص عالم الأعصاب بمستقبلات “جابا” فقط) مفصول عن سياق التخصص نفسه.
المشكلة في مثل هذه النموذج paradigm هو أن له مدافعين، كالعقدية تماماً، كما أن له متعصبين، كما لو أننا أمام أرثودكسية – قويمة – لا يمكن الحياد عنها، أو الخروج عليها. ولا تقتصر أزمة هذا النموذج على الجانب التنظيري فقط، إنما تتعداها إلى الجانب التطبيقي (مريض يذهب إلى طبيب متخصص بالعمود الفقري، يعاني المريض من ألم حاد أسفل الظهر، كما أن عنده مشاكل الكبد) الطبيب، المتخصص في العمود الفقري، يكتب للمريض، ودون أن يقوم بعمل أي استقصاء اضافي، دواء مسكن من فئة NSAID بجرعة كبيرة، النتيجة ارتفاع أنزيمات الكبد وبداية فشل كلوي، هذه قصة حقيقية حدثت بالفعل نتيجة التخصص الزائد بل الفائض عن الحاجة).
أزمة العلوم الإنسانية هي أعقد من ذلك بكثير، وخصوصاً أن لكل فرع أو ميدان، عدة مدارس وتيارات فكرية وأيديولوجية، وعدة مناهج كمية ونوعية، مثل السايكولوجيا، فموضوع دقيق جداً مثل مفهوم السعادة، يرتبط بما لا يقل عن خمسة علوم أخرى، لا يمكن لعالم النفس وحده أن يغرق في هذا المفهوم دون أن يطلع على عدة علوم أخرى، ودون امتلاكه ناصية علوم فرعية أخرى مثل الإحصاء والتكنولوجيا. بالإضافة إلى الصحة العامة، ومفهوم well being الذي يتربط بفمهوم السعادة happiness بالإضافة إلى دراسة السوسيولجيا، الأنثروبلوجيا، علم الأعصاب العام واطلاع عام على علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) واطلاع على دراسات الدماغ (العقل)، ولا يمكن دراسة السعادة دون دراسة التغذية ونمط الحياة، بالإضافة إلى الظروف المعيشية والإقتصادية للشعب (النموذج) الذي سيتم دراسته.
هذه مقدمة تبسيطية – ومُوغلة بالتبسيط أحياناً – لكن الأمور تصبح أكثر تعقيداً في بعض العلوم التي لها جانب تطبيقي واسع، وتعد الفواصل بينها وبين علوم أخرى أكثر ضبابية، مثل تخصص العلاقات الدولية، الذي يتداخل – ولا يمكن دراسته – دون الإطلاع على العلوم الساسية (بما تشمله من نظريات، وفكر سياسي، والسياسة الدولية، ادارة الأزمات) بالإضافة إلى الدبلوماسية والإقتصاد وغيرها من التخصصات (العنف، علم الجريمة، الإرهاب، المخدرات، الهجرة، المناخ، البطالة،..).
لا يكفي الحديث عن تداخل التخصصات دون الحديث عن طبيعة تعقيدات المشكلات والتحديات التي تواجها البشرية اليوم، هذه التحديات تشمل مثلاً التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة وسط نقص منسوب المياه، هذه الظاهرة المعقدة تخلف وراءها موجات من الجفاف والفيضانات والهجرة المناخية وغيرها من المشاكل المعقدة، ولا يستطيع أحد أن يدعي أن (متخصص) في التغير المناخي لأن هذا الحقل يشمل البيولوجيا، الأيكولوجيا، الإقتصاد، السياسة، الكيمياء، الفيزياء والعلوم البيئة بكافة أفرعها. وما يتم دراسته هو عبارة عن شذرات chunks من هنا وهنالك، وبناء استدلالات اعتماداً على هذه الشذرات!