دخلت التكنولوجيا في كل ميادين الحياة، واخترقتْ معظم المعارف والحقول العلمية والمعرفية، فهنالك التقنية المالية القائمة على “البلوك تشين” وهنالك التقنية الصحية وتقنيات الأزياء والتقنية البيولوجية وغيرها من الفروع العلمية.
تأخرت التكنولوجيا في اختراق ميدان القانون لعدة أسباب، لعل أهمها هو احتكار هذا الحقل المعرفي من قبل طبقة المحامين والقضاة فقط، والصورة التي رسمها هؤلاء لهوية تخصصهم الفريدة، والتي لا يمكن اختراقها إلا لمن تمرس بها، بالاضافة إلى ترسانة المصطلحات Jargon القانونية بجذورها الإغريقية واللاتينية، بالاضافة إلى تقليد تليد عند طبقة المحامين والقضاة يتمثل برفع وتسويد المرافعات وحشد الأدلة من هنا وهنالك، والاستشهاد بمواد قانونية ودستورية وتعليمات واتفاقيات وغيرها من المتون corpus.
لعل أهم ما جاءت به الثورات التقنية هو مفهوم اعادة هندسة العمليات business process re-engineer القائم على اختصار المسافات بين مدخلات الإنتاج ومخرجات المنتج أو الخدمة النهائية، وبتطبيق هذا المفهوم على الحقل القانونيّ، من الممكن للمحامي المتمرس اختصار 90% من الوقت الذي يستهلكه المحامي العادي والمحترف (تشير بعض الدراسات إلى أن 85% من عمل المحامي قائم على التنقيح والتسويد، وهو عمل يخص السيكرتارية بالدرجة الأولى) .
تقدم العديد من التقنيات خدمات اعادة هندسة العمليات للحقل القانوني، ولعل أهم شركة في هذا المضمار هي شركية legalzoom، فهي تقوم بتحليل النصوص القانونية، والتنبؤ بالأخطاء الحقوقية، وادارة القضايا case management.
بدأت الثورة الحقيقية في مجال التقنية الحقوقية على يد شركة lexis Nexis ، وهي شركة تختص في مجال القانون ومجال الإعلام، حيث تقوم بتوفير المتون القانونية وجميع القضايا المنضورة في القضاء public records. في الأردن ظهرت منصات مشابهة لعل أهمها منصة “قرارك” التي تديرها نقابة المحامين، وكذلك منصة “قسطاس” وهي منصات تقدم نصوص قانونية وقضايا على شكل قواعد بيانات، وتفتقد كلا المنصتين لمحركات بحث ذكية ومتطورة كتلك الموجودة في Lexis Nexis، كما تفتقد كلتا المنصتين لأدوات التحليل (مقارنة النصوص، الكشف عن الأنماط السائدة، الربط بين القضايا والمواد القانونية،…).
قامت تومسون رويترز بتدشين منصة Westlaw Edge حيث تقوم بتقديم خدمات حقوقية عبر توظيف التقنيات المختلفة وعلى رأسها الذكاء الصناعي وتعلّم الآلة.
من تطبيقات التقنية الحقوقية هو توظيف blockchain وخصوصاً في ما بات يعرف بالعقود الذكية، وقد بدأت العديد من الجامعات حول العالم باصدار شهادات الطلبة بناءً على هذه التقنية الثورية التي اختصرت المال والجهد المبذول في عملية تصديق والتأكد من الشهادات الرسمية. كما أن دولا عديدة بدأت بوظيف تقنيات العقود الذكية مستغنية بذلك عن دور المحامي التقليدي، ولعل أبرز مثال على ذلك هو سنغافورة والهند.
تتيح الثورة التقنية في مجال القانون إلى تدشين العدالة القائمة على البيانات Data-driven Justice بما يتيح الوصول للعدالة من قبل فئات مهمشة ودرء الأخطاء البشرية القائمة على التفسيرات الخاطئة أو التحيزات القعلية القَبليّة، وهذه نواقص في مهنة المحامي والقاضي التقليدي كما تشير العديد من الدراسات الصادرة من Stanford center for legal informatics.
في القرن السابع عشر، اقترح الفيلسوف وعالم الرياضيات جوتفريد لايبنيز تطبيق المنطق في القانون. لقد أراد تطوير طريقة للتفكير القانوني تكون دقيقة مثل الرياضيات، طريقة لتحديد الفائز في الدعوى بمجرد إجراء الحسابات المطلوبة.
أصبحت تُعرف الآن فكرة تحويل القانون إلى نظام حسابي بحت باسم Leibniz ’Dream.
بعد أكثر من ثلاثة قرون، بدأ الحلم يتحقق. في عام 1987، طور الأستاذ الكندي “هيو لوفورد” قاعدة البيانات القانونية Quick / law. كانت واحدة من أولى المحاولات الحديثة لتطبيق التكنولوجيا على القانون. بعد ست سنوات، أدى ذلك المشروع الأكاديمي إلى إنشاء Quicklaw ، وهي واحدة من أولى شركات البحث القانوني.
تُبشر التكنولوجيا بثورة حقيقة في مجال التقنية الحقوقية، فحسب بعض التقديرات سينتهي احتكار الحقل القانوني من قبل الحقوقيين والمحاميين، ستقتحم التقنية هذا العالم كما اقتحمت البيولوجيا والصحة من قبل، وهي علوم أدق وأكثر بيروقراطية ولها تراث سردي هائل وترسانة من المفاهيم والمصطلحات المتوارثة منذ أبقراط وأرسطو، ومع هذا اقتحمت التقنية هذا العالم، وربما تكون أهم معظلة في الوقت الراهن هي التحيزات في الذكاء الاصطناعي، لكن التجربة علمتنا أن قدرات التصحيح الذاتي تتطور خصوصاً عندما نتوسع في جمع البيانات.
Leave a Reply