تُخوم الدين وحُدود الدولة

رعد تغوج

الخطابُ العِلمانيّ أو العَلمانيّ، أو حتى بالصيغة التأثيليّة التي طرحها طه عبد الرحمن، الخطابُ الدهرانيّ، هو شجنُ النُخبة العربيّة المُزمن، والمادة الإستشراقيّة الأثيرة، والحظوة التي كرسَ لها الإسلاميونَ مُرافعاتهم النقدية، التي أخذت صيغة الهجاء. والحلوى التي لحنَ عليها الليبراليونَ والماركسيونَ معزوفاتهم، التي أخذتْ صيغة الثناء والمدح، بل والشكر للحضارة الغربية والإستعمار الذي عرّفَ العرب، لأول مرة على الفكر السياسيّ! وبين هجاءٍ وثناء يقفُ خطابُ التخنيث الذي دفعَ أحد المُتفاكرين إلى تلفيق هذه الجملة في إحدى استهلالته  : ” يا أيها الذين آمنوا ويا عُمال العالم اتحدوا” .

برزتْ على الساحة الأردنيّة في الأونة الأخيرة قضية دين الدولة، ومُستقبل المدنيّة والعَلمانية في المملكة، وغيرها من الطروحات التي بدأت مع تواتر الأخبار عن نية الدولة بإلغاء خانة الديانة عن الهويّة، ووصلتْ ذروتها مع قضية زليخة أبو ريشة، والتراشق الإلكترونيّ والإعلاميّ بين الإسلاميين والعلمانيين، وصدرتْ تقارير عن مرصد “أكيد” حول خطاب الكراهيّة في الصحف المحلية، كُلُّ ذلك والغائبُ الأكبر هُوَ المُحاكمة النقدية المعرفيّة لمسألة الدولة والدين، في جانبها التنظيريّ، كما في جانبها العملياتيّ والعمليّ.

هُنالكَ نوعان مِن الأسئلة، المشروعة عقلاً، كما هي مقبولة نقلاً، الأسئلة الأولى تتعلقُ بالكون والوجود والطبيعة والإجتماع البشريّ والعمرانيّ، والإجابة عن هذه الأسئلة لا يكونُ مفروشاً في النص الدينيّ وإن كانَتْ الإجابة مشفوعة به للإستئناس، والإستئناس فقط، لا للحسم وفصل الخطاب، فهذا أمرٌ راجعٌ – حصراً – إلى تطور العلوم والمعارف، وما قدمتهُ من فُتوح ومُستجدات، أثْرتْ البحث العلميّ وطورتهُ.

أمَّا النوع الآخر من الأسئلة، فهو راجعٌ – حتماً – إلى الميتافيزيقيا، أو الأسئلة الوُجوديّة الكُبرى، التي ما سُئلتْ أو تمَّ طرحها، إلا وكانتْ استحالةُ الإجابة عنها مُتضمنة –قصراً- في بُنيتها. مثل هذه الأسئلة لا تكونُ الإجابة عنها علمياً، إنما دينياً وروحانياً، وذلكَ لعدة أسباب لعلَّ أهمهَا أنْ من يطرح هذه الأسئلة عادةً هُم العوام ومعظم الناس، الذين لا يرتاحونُ إلا للإجابات التطمينية إرواءاً لضمأئهم الروحيّ وقلقهم الوجوديّ من تلك الأسئلة المحيرة.

 والحقيقة أنَّ تبديل الأدوار بين الأسئلة، وخلط الأوراق بين الأجوبة، يُوقع كلا الطرفين في أزمة، فالأسئلة العلمية تحتاجُ إجابات علمية رصينة، والأسئلة الروحية، تتطلبُ إجابات دينيّة تتناسبُ وروح تلك الأسئلة.

الذي حصلَ ويحصلُ في المملكة بينَ تلك النُخب، هُو خلط تلك الأوراق معاً، هذا إذا ما أخذنا المقالات والتعليقات الرزينة التي طرحها هؤلاء، فالبعضُ الآخر – وخًُصوصاً في السوشال ميديا – تَطَاوَسَ (من الطاووس) وفردَ أجنحتهُ الخاطفة للأبصار والأذهانِ معاً، راكباً موجة الدفاع عن الدين تارةً، وطوراً – عند أناسٍ آخرين – مُمتطياً صهوة المدنيّة الليبراليّة! وفي كلا الحالين تمَّ الإسفافُ في الفكر، والإستخفافَ به، ودروشة الدين والنزول به إلى مدارك اللامعقول .

 خياراتُ الدولة في مثل هذه الملفات واضحةٌ، فهنالكَ تجريمٌ قانونيّ وأمنيّ للعبث بالرموز الدينيّة، وهذا ما شاهدناه في قضية أمجد قورشا وناهض حتر معاً، فدينُ الدولة حسب الدستور هُو الإسلام، والمسيحيين هُم كتلة واحدة منذُ تأسيس المملكة، وهذا ليسَ خطاباً استهلاكياً تُمارسه قنوات الدولة ومساميرها، إنما هو إرشيفٌ يستندُ إلى وعي تاريخيّ، ويكفي مُراجعة ما كتبه خير الدين الزركليّ في كتابهِ “عامان في عمان” أو ما كتبه تركي المغيض في رسالته للدكتوراة في بيروت حول الحركة الشعرية والأدبية في بلاط الملك المُؤسس.

لا نتورط ونقولُ أن النُخبة أضربتْ عن التفكير، إنما هو الإعلامُ والصحافة، مَنْ أجج الموقف، وقد كادتْ الأمور في قضية ناهض حتر أن تبلغَ البُلغين لولا إيقافه وإسناد التهم المُباشرة له لإسائته للإديان جميعها، فما هُوَ مِقياس ريختر الإعلاميّ الذي يكبحُ الإنفلات الأخلاقيّ في هذا الزمن الذي وصلَ فيهَ الإعلامُ أرذلَ العُمر والفكر معاً؟!

Leave a Reply

Your email address will not be published.