حكواتي مع نفسه
رعد تغوج
منذ متى وهو يسمعُ زقزقة العصافير تُلاعبُ ظل نافذته والفجرُ آيلٌ إلى مُحال ؟
صوتٌ يُناجيه مِراراً ويقولُ : “مَقالُ الوُصالِ مَحتومٌ بالفِصال ، ومُراعاةُ المُناجاةِ مَنْجاةٌ إذا وردَ الوليدُ الوريدَ “.
أيبثُه خاطرَ اللحظةِ أم أنَ ساعة الوصلِ في رِحالْ ؟
الحمامُ يُكفكِفُ جناحيه خارجاً دون أنَ تسقطَ منه ريشة واحدة إلا في ميزانٍ مكتوب، لقد تدربتْ طويلاً ، ربما منذُ أول الخلقْ ، فهي تهجعُ وتتهجد وتأويٍ إلى بِساطٍ تغمره ُ الأفلاك .
“الفرقُ بين عباد الرحمن وطيور الريحان كالفرقِ بين الفُلكِ والفَلَك ، فتلكَ تغرقُ في نسيم السديم، وتلك تسبحُ في مواكبِ الكواكب” .
منذُ انفصل عن زوجته وهو على يقين أنَ دورَ المجتمعِ انتهى إلى مصيرٍ محتوم : مجتمعٌ إسميّ ، والمرحلة هي في التركيز على الذاتِ في بناء ذاتها.
صوتُ صُقاع الديكة يعلو على شدو البلابل فالشمسُ ساطعة لا ريب فيها ، سانحةٌ تدورُ دورتها في عقله ، ماذا لو تعاركت أفعى مع عصفور ؟
“دخلتْ قطتان من قطط الحارة في غرفة مُظلمة لا ضوءَ فيها ولا بٌقعة ضوء ، فرمى لهما رامٍ كرةً من الصُوف ، فأخذتْ القطتان تمرحان بها حتى صيرتا عاليها سافلها وقلبتا يُمنتها ميسرتها، أيُّ إنسانٍ يستطيعُ أن يحلَ عُقدةَ هذه الكرة ؟؟ لحلّ عُقدةٍ من لسانِ بائسٍ عِندَ سُلطانٍ جائرٍ أهونُ من التدخل بمخلفات الحيوانات“.
هل حالُ المُحال كحال الكرة ؟ لا يستطيع إلا واحدٌ من علياءِ سمواتهِ أن يُخلص الحابل من النابل والعاجل من الآجل. لقد تحولَتْ الهمجية والوحشية والجهل إلى حاسة سادسة من تكرارهما.
” أنا لستُ أنا ، وما يُخيلُ إليَ أني أنا ، هوَ هوَ خارجٌ عن كوني ، كينونة كوني في عيني، المِرآة مُراءاة المارين عليها” .
فكرَ أن يُحطمَ المرآة التي يقف أمامها ، تذكرَ الجنودَ السوفييت ، يُغني الواحدُ فيهم في الحمام وحده، يسمعُ صوته الشجي ، لربما أدى التحية لنفسه أمام المرآة، يحلمُ كل واحدٍ بالنياشين على صدره ، وعندما تمتلئ الملابس بالأوسمة يقلبها إلى الجهة الأخرى ، لكن كيف ستراها العباد والبلاد!!
عُمره تسع وعشرون عاماً.
” وآمنْ حتى يأتيكَ اليقين ، وما دُمتُ على يقين أني أنا ، فقد أعطاني الله العشرون مكان الفنون، وأعطاني التسعَ مكان السِعة ، مثلما أُعطي مَنْ قبلي ما بين الطواسينِ إلى الحواميم مكانَ الزبور“.
طنينُ البعوضِ اقتحمَ خلوته وأزيز الكهرباء و ورشات النجارة في الحي ملأت الدنيا صخباً .
دَنْدَنَ وهو يحتسي دنْ التوت مع الرُمان ..
“منْ أنا كي أخيبَ ظنَ القدر يا بنتَ السلطان؟ ”
في غمرةِ الجَلَبَة التي أحدثتها الموسيقى الصاخبة التي لا يحبها في معرض الفنانة الأرستقراطية رانيا الخولي ، انزوى بروحه بعيداً ، تذكر “كونداليزا رايس” وهي تضع القبعة العسكرية على رأسها بعد أن أخذتها من جمجمة رامسفيلد في أول مُؤتمر صحفيّ بعد دخول العراق، ما الذي جرى ؟
كلما صار صوت العصافير بعيداً أخذت الشمس في الصعود ، الصباحُ مملٌ والقهوة لا تروق له، تجعله يتقيأ ويُخرج مصارينه كلها ، كان مثل الرئيس يُعاني من تبول لا إراديّ ، مثلَ الخليفة عبد الله الصغير الذي باع الأندلس مقابل القشتاليات الفاتنات، مُقابل غجريات اسبانيا وليون وصقليا.
“دعوتكَ فحجبتْ ، ركعتُ ففصلتْ ، والنفسُ تألفتْ وتلِفتْ ، والأعضاءُ بحقٍ هتفتْ ، ما أعفيتَ المَحَلة لكن عُفتْ ، أقضيةُ اللهِ دعتْ فأسمعتْ إنْ هتفتْ“.
“لستُ يُوُسُفَ ولا أمِلِكُ قميصاً يُقَدُ ، اليومُ صلاة وغداً صلاة، فلا تبتلٌ في الدماغ ولا تهجدٌ في المساء، قُضي الأمر الذي به تستفتيان“
أخذته العِزة بالإثم عندما تأخر عن المدعوين في صالة الفنون ، وهو يُقلبُ ما أنطرح له من أفكارٍ أمام المرآة، قرر أن يعود ويجتهد في الرقص الذي يعقب الافتتاح ، رانيا الخولي ابنة وزير المالية وإحدى مخلفات القشتاليات بسمارها المُشع وبشرتها الكستنائية.
ما رأيكَ أن تكونَ ملحقاً دبلوماسياً في سفارتنا بالدنمارك ؟ فرحته لم تكن بالمنصب قدر تعلقها بالخروج من القدر، لاحَ السؤال له مراراً بعدَ أن تقاعد ، وما زالتْ أشباحُ الوحدة تعصرُ قلبه.
“لو أننا في روما أو باريس ، لوضعتُ إكليلَ الزهور على شعركِ وقلتُ لكِ مباركٌ أيتها الأميرة، لكننا في مدينة الفراشات الحزينة “
ابتسمت رانيا الخولي ، هي تُحبه وتعرفُ أنهُ غريبُ القلب واليد واللسان .
بعدَ أن صلى الفجر ، طافَ حول السرير ، لم يعد يسمع أصوات العصافير .
ميزة سفاراتنا في الغرب أن وزارة الخارجية لا تسألُ إلا عن التقارير الإعلامية في البلد ، وباقي النهار للتسكع الدبلوماسي الذي نال به لقلب “هامل ” بكل جدارة .
أخذتْ بيده وأجلسته عند أريكةٍ وثيرة وجلستْ بجانبه ، تأملَ عيناها فوجد أسراراً لا تبوح بها الألسن، رانيا امرأة مفعمة بالأنوثة .
هَمَ أن يخرج عن سكونه ، غسل وجهه مرة أخرى وتوضأ متأملاً المرآة ، مشكلته أنه هو ، لم يجد تبريراً لنفسه ، البسطُ والقبضُ تجربةٌ يغوصُ بها العُرفاء .
لماذا لا تكونُ رانيا معه الآن ؟ ، تهادى قليلاً قبل أن يرجعَ إلى الأريكة ، تذكرَ أنَ الخيلاءَ صفة المنافقين ، هي مرضُ القلوب ، رُبعُ المُهلكات ، ومِنهاجَ القاصدين مُتَعَلِقٌ برُبع المُنجيات فقط ، عليهِ به ، تناولَ مًصحفاً وفتح سورة يُوسف.
ناولها سيجارة ، تُشعلُ كالشعراءِ المغمورين سيجارتها ، حدثتهُ فاستجاب ، شكت له الدسائس والكمائن والمؤامرات التي تُحاكُ ضدها من زميلاتها.
“فلما سمعتْ بمكرهنَ أرسلتْ إليهنَ وأعتدتْ لهنَ مُتكأ وآتتْ كلَ واحدةٍ مُنهنَ سِكينا“
أخذَ يسمعُ شعر “اسحق واتز” بصوتٍ يمتلأ حنقاً ، الأجواء في الدينمارك كئيبة ، مزرعة أبقار بجانبهِ، ريفٌ وقطعانٌ وحقولٌ مِنْ القمحِ.
عادتْ تُمازحه ، لم يعد قادراً على التمييز ، عليه بالمرآة ، الأيام ُ دولُ داولها الباري بين الناسِ، تفريغ الشحنات الروحية لا يتمُ إلا عبر التناسخ بين الأرواح.
همَ أنَ يُقدم استقالته ، قفلَ عائداً من المؤتمر الصحفي ، السفراء ثرثارون كالمُطلقات.
أسوء لحظة عندما تغادر العصافير ، تنسحبُ بصمت الشموع تاركة الأرض للمسبحين ، المُسنين هم أكثر من يسمعون نداء الطبيعة ، يُلبون الخلق ، من الذرة إلى المجرة ، أكوانٌ تحرسها الملائكة العلوية.
لم تستطعْ بأنوثتها أن تُخرجه من سكونه ، حاولتْ المزاح معه ، الحديثَ ، جاذبته خيوط النمنمة ، العُمرُ قفل إلى محطته ولا وقتَ لإضاعة الوقت.
أطالَ السجودَ كعادته ، ألقى السمعَ للطيور وهي تغردُ والقلبُ حسير ، الذاكرة مثقوبة وشعاعُ الشمس اقتحم خلوته ، يكره دبي والمدن الناطحة للبصر ، تقتحمه اقتحاماً دونَ استئذان.
“وربُّ المُزدلفةِ والنار ، ما أنا مِنْ تلك الأحجار ، كشفتْ عَنْ حكمتها الأقدار وحارتْ بربِّ البرية الأبرار“.
أخذ بيدها ونهض أمامها ، جعلها تمشي أمامه وهو ممسكٌ بيدها ، وعندما وصلَ إلى الرف أزاح الأوراق عن ألبوم الصور .
حاولَ أن يرسم ويتعلم فنون الرسم الأخرى التي لم يتعلمها ، أراد توطين نفسه في الغربة ، الفن هو مسكن الغرباء ، وُلدَ الفن غريباً فطوبي للمجانين.
منظر البوهيمين الباريسيين أعجبه ، فنان كثَ الشعر أغبره ذو ثياب بالية وقبعة قديمة ، يرسمُ طوال النهار ، ومساءً يبيع لوحته ببضع فرنكات ليذهب ويشتري بكامل ثمن اللوحة أدوات الرسم من ألوان وأوراق وغيرها ، حياة غارقة في السديم والسوريالية .
أشارتْ إليه بأن يشرب كأساً من العصير ، تناول السيجارة وأشعل واحدة لها ، تأمل عينها ، هي مُطاعة اللحظ له وحده ، مطاعةُ المُقل .
أخبرها وهو يتأمل ألبوم الصور أنه يرغم بإخراج فيلم لقصة “حفنة تمر ” ، اللحظة الأولى في الفيلم تبدأ بمقطع ” شدْ العمة شدْ ، تحت العمة قرد ” ، والمشهد خلف الأزهر ، والأطفال يضربون بالحجارة على الشيخ.
لم يرسمْ شيئاً ذا بال ، بعض المنمنمات على مسرحية “كانتيجونا” ورواية الحاج مراد لتولستوي ، غرق بالتجريد فترة غير أن السياسة جعلته واقعياً كالزواحف .
كُتبَ على الصورة التي تجمعه برانيا في شرم الشيخ ” مَقالُ الوُصالِ محتومٌ بالفِصال ومُراعاة المُناجاةِ مَنْجاةٌ إذا وردَ الوليدُ الوريدَ“.
العُمرُ لحظة وتزول والوقتُ تُرابٌ آيلٌ إلى طين بعدها.
المرآة أمُ المشاكل ، حَوَلته من يتيمٍ إلى لطيم ، وصيرته سخيماً بلا نسب.
كم هي بعيدة تلك السنين ، كنتِ الأقربَ إلى قلبيّ ، فكيف تظلُ بعيدة تلك السماوات؟
ليلة ثلجاء والجو مطير ، والبردُ ينخرُ العظام نخراً فهو كظيم ، وليالي العرب ليست ألف ليلة وليلة ليلاء .
“سأتركُ حديثي عند الأريكة والكأس الفارغة سيكملها المُتعبون من عباد الرحمن”
الفرق بين عباد الرحمن وقطط الرحمن ، قلوبٌ بيضاء ومخالب عذراء والدنيا لمن غلبا ، ولا غالب إلا الله .
” أمّا أصحابُكَ يا هذا فقد غووا ، عبّوا في المَوردِ فما ارتووا ، نادتهُمُ الأقضية حتى ثووا ، خلّوا للوارثِ ما حووا ، طواهمُ القدرُ فانطووا ، لاقتهمُ الآخرة بما نووا “
Leave a Reply