هكذا تكلمت فكتوريا اللامُتوقع في أدب كنوت هامسون

رعد تغوج

يُوحنا هو ابن الطحّان البأس ، صائدُ المحار واللؤلؤ في أعلى الجبل الأخضر ، عِندَ مقلع الجرانيت القديم ، يحلمُ – وهُو ابن أربعة عشر ربيعاً – في أنْ يُصبحَ وقاداً ، المِهنة التي تضمنُ لهُ احترام الأصدقاء إلا أنهُ أصبحَ أديباً وشاعراً .

هذهِ بإختصار بطاقة تعريفية أقلُ مِنْ مُوجزة لشخصية يوحنا ، بطلُ رواية فكتورياللأديب النروجيّ كنوت هامسون ، الرواية التي حازتْ جائزة نوبل لا لحساسيتها الشعرية ، إنَّمَا للشجن الإنسانيّ الذي احتوتهُ .

وأمّا فكتوريا الجميلة ، فهي التي قال عنها يُوحنا : فكتوريا ! فكتوريا ! لو تعلمُ أنّها تملكُ كلّ لحظة من لحظات حياتهِ ، يرغبُ في أنْ يُصبحَ خادماً مُطيعاً لها ، عبداً يُكنسُ بأكتافه الطريق أمامها ، يُقبلُ راضياً حذاءها الصغير ، يجرُّ عربتها ، ويضعُ الحطب في مدفأتها ليالي الشتاء – حطبٌ مُذهبٌ في مدفأتكِ ، فكتوريا .

وإذا كانَ معروفاً عن كنوت هامسون حذرهُ الشديد في رسم شخصياته الروائية ، فإنَّ شخصية يوحنا في هذه الرواية أكثرُ مِنْ لوحة ، وأعمقُ مِنْ قصيدة ، وأشرحُ مِنْ مُوسيقى . تقومُ الرواية على حُبٍ طفوليّ بين يوحنا العامل البائس والأرستقراطية فكتوريا ابنة صاحب القصر التي اجبرها والدها على الزواج من الملازم أول أوتو” otto ، بيدَّ أنَّ الرواية تبدأ بالإستطرادِ قبلَ الزواج ، وباستثناء الأدبيات التشويقية ، فإنَّ التوترَ السرديّ في هذه الرواية يتزاحمُ كلَّ بضعَ صفحات، بينَ مدٍّ وجزرٍ في القشعريرة التي أسمُها : الحُب .

كانتْ فكتوريا بالنسبة ليُوحنا أشبهُ ما تكونُ بباخرةٍ تبتعد عنْ المرفأ ، فالفروقُ الطبقية والاجتماعية بينَ العاشقينِ جعلتْ مِنْ فكرة الحُبِّ عبثاً ، وعندما توفي أوتو ، زوج فكتوريا أثناء ذهابهِ في رحلةٍ للصيد ، ابتعدَ يُوحنا وانهمكَ بأشعارهِ وشُهرته حتى تفاجأ بموت فكتوريا !

أولُ لقاءٍ جمعَ بينهما كانَ في الطفولة ، حيثُ يعملُ خادماً في قصرِ والدها ، كان عمره أربعة عشرة سنة ، وفكتوريا عشرة أعوام ، ذهبا معاً في رحلةٍ للتنزه على متن القارب ، ودفعهُ حظهُ العاثر لأنْ يُصبحَ أضحوكةً بين أصدقائها ، فأخذَ يحلمُ بها أحلام يقظة .

عندما تأزفُ ساعة الرحيل تثملُ فكتوريا على ركبتيها بين يديه ، مغرمة متيمة ، تغمغم منتحبة : ” اتركني يا مولاي ، أمكُ بالقرب من جلالتكم ، لا تطردني ، اجعلني آمة من إمائكَ ” .

(ما الحُبُّ؟) هُو السُؤالُ المركزيُّ في الرواية ، ولمْ يدعْ كنوت هامسون الإجابة تمرُ بدُونِ شاعرية ريح تداعبُ الوُرود، لا إنّهُ حِممُ تسيلُ عبرَ أحشائنا، نغمُ جهنميّ يعيث حتى بقلوب العجائز ،وها إن الإنسانَ يُهزمُ ثم يُرفع من جديدٍ ويُحرق بنار لا تُطفأ حتى الموت ، أنا مملوء بك فكتوريا ، الحُبُّ وحيدٌ ، ميّالٌ إلى العُزلة والى النهاية غير المتوقعة“.

إذا كانَ هُنالكَ صنفٌ مِنْ الحُبِّ المُسكر فهو صِنفُ الحُبّ الطفوليّ الذي يداعبُ أهداب المساء ويلتقطُ البراءة قبلَ أن تشبَ ، فتغدو المعادلة أن تحب أو لا تحب وفق رؤى شكسبيرية تحلمُ بالمستحيل ..

لقد مارس هامسون هوايتهُ شبه القصرية بدغدغة المتلقي بحيثُ يصبح المُرسلُ إليه برسم الجنون والحب ، أشبهُ ما تكونُ بهستيريا بلا صُداع لأنَ الحلم رديفُ الخيال ، وهو ما قال عنه غرامشي بأنه جرعة زائدة من الواقع ، فهل قدم لنا هامسون جرعة زائدة من الواقع ؟