المُؤتَلف والمُختلف في الهرمنيوطيقا

رعد تغوج

يمرُّ كشفُ مُعمى المعنى بسيرورة مُعقدة من المُستويات المُتساويات في الغايات ،المُتساوقات في القراءات، لكنها مُناشزة في الوسائل والأدوات. وأولى هذه المُستويات هو القراءة للمُفردة الفَرِدة في سياقها ، المُتفردة في نزولها وأسباب نزولها ، والغرِقى في إيتيمولوجيتهاوموروفولوجيتهاالساحقة في مساقات التاريخ والحضارة . وهنا يدخلُ التأثيلُ المُقارن والتأصيلُ المُتوازن في تجلي إرادة المعنى طبقاً لمقاصد المُتكلم وسطَ عملياتٍ سوسيولوجية من خارج النص ، ساهمت نسقياً في صيرورة إنتاج المعنى وتلقيه.

وكلُّ عملية لإنتاج المعنى كما قرَّ في الدرس الفيلولوجي ، يُوازيه تعمية للمعنى ، فهما صنوان وبينهما برزخٌ لا يبغيان ، ومُحاولة الدخول في تلك اللعبة قارٌ في الإنزياح الذي يتجاذبه كلا الإرادتين : إرادة المعنى ، وإرادة المُعمى.

وفي نفس المُستوى ندخلُ في عالمٍ متعدد الأبعاد ، كما يسميه برنار لايير، وبين المُختلف والمُؤتلف في تكامل المعارف وتداخل المهارف* يتملفظُ المنطق كفتحٍ في السياق السوسيوحضاري للفكر الإسلامي القديم يتدانى من عيار الماهية ويتوانى عن الشكل الخارجي للنحو ، الذي مال فيه فقهاء النحو عن الجوهرٍ إلى العرَض، وهنا يرد قول الأخضري:

ونسبةُ الألفاظِ للمعاني خمسةُ أقسامٍ بلا نقصانِ

تواطئٌ تشاككٌ تخالفُ والاشتراكُ عكسهُ الترادفُ

والمُقترب الثاني مِنْ مُستويات تجلي المعنى هو القراءة التركيبية syntax السياقية والتواصلية، فإذا كانتْ خاصيةُ القراءة التي تلتمسُ المُفردة هو التوليد ، فإنَّ خاصيةَ القراءة التي تلتمسُ التركيب هي البديل ، والبحثَ عنهُ وسطَ التوليفات اللامُتناهية من أشكال التركيب المُمكنة والمُتاحة،والقواعدَ التي قُرّتْ والتي لم تُقر في الدرس النحويّ ، طبقاً للنقد الذي يقولُ أنَّ النحوَ استقراءٌ ناقص لكلام العرب ، وأنَّ النحوَ – أيَّ نحو – عاجزٌ عنْ رصَد الإمكانات والطاقات اللانهائية مِنْ التبديل والتغيير والتحويل في الكلام ، وهذا يعني عجز المنهج الوصفي في قراءة المدلول النهائيّ ، فضلاً عنْ قدرته على كشف المعنى واستكناه المُعمى.

ولا يعني كشفُ المُعمى في المُستوى الأولى – مُستوى الكلمة المُفردة –أنْ لا حاجة إلا للمستوى الثاني – مُستوى التركيب ، فقدْ تخرجُ اللفظة عن مُرادها الأصليّ لمعانٍ مقصودة مع قرينة تدلُ على هذا الخروج، وهذا حدُّ المجاز ، ومعيارُ البلاغة ، في بُعدها أو قُربها من المعنى ، وفي ملاءمة المسافة ، ومواءمة المساحة ، بينْ ما كان وما سيكونُ عليه المعنى، ولأيّ غرضٍ زُحزحَ المعنى ، ولِمَنْ يتوجهُ القاصدُ.

والعلائقُ المُختلفة أو المُؤتلفة بين الكلمة المفردة والتركيب تحتكم إلى شرط الجماليات المُستحدثة في كلِّ جيل ، وفي كلِّ زمن ، وعند ظروف حضارية تأخذُ شرط التلقي وحساسية الذائقة السائرة والسائدة في مناخات المُرسل إليهم ، وعادةً ما يكونُ مِنْ الصعوبة بمكان فكُّ شيفرة المُعمى في هذا المُستوى الجماليّ ، الذي قدْ يكمنُ تحتَ جماليته – أو خطابه الشعريّ أو الأدبيّ – خطابٌ عقليّ أو تشريعيّ ، ولنا في نصوص نيتشه والنِفري وبعض المقامات دليلٌ على ذلك.

تنفجرُ الحساسِّية الهرمنيوطيقة بوصفها أداة نقدية ترومُ الوُصول إلى القراءة العارفة أو القراءة العالمة كما بات يُقال اليوم informed reading ، ومقاصدُ هذه القراءة واضحة في إرادتها الواعية لتوخي حدّ الكفاية الفهمية مِنْ النص حسبَ مدلولات القائل أو المُتكلم ، وهذا ما يجعلها بعيدة عن قراءة الجماليات دون الإستعانة بنظريات النقد الثقافي الحديثة ، وخصوصاً المُتعلقة والمُتعالقة بأنثروبولوجية الأنساق الثقافية الكامنة والمُضمرة خلف النص الفنيّ أو الأدبيّ أو الشعريّ ، وهذه آخرُ أطوار المنشود المعرفيّ في تلقي الموجود اللغويّ !!.