بقلم : رعد تغوج
اختبار مقولة ” أنَّ للإسلام حدوداً دموية ” التي جاء بها “صموئيل هنتجتون” ليسَ أمراً صعباً ، فقد تصدرتْ الدُول الإسلامية – أو التي تتصارع فيها بعض الجماعات الإسلامية المُسلحة – مُؤشرات الدولة الفاشلة لسنة 2014 و2015، ونال لقب الصدارة في هّذهِ القائمة جنوب السُودان ، وتبعها الصُومال وجُمهورية إفريقيا الوُسطى والكُونغو والسُودان، وبعدها أفغانستان واليَمن والبَاكستان ، وحلَّ العِراق في المَرتبة رقم 13 وسُوريا نالتْ رقم 15 في قائمة الدول الفاشلة- FSI – .
ورأساً إلى الخريطة الحُدودية للمنطقة ، سنرى توتراً على الحدود الأفغانية – الباكستانية ، والحدود الباكستانية الهندية في إقليم كشمير ، وأزمة بين أذربيجان المُسلمة وأرمينيا المسيحية والتي اشتعلتْ في إقليم ناقورنو قارباغ، والشرق بدءاً بجبهة تحرير مورو وحركة أبو سياف في الفيليبين، والأزمة المائية الحدودية بين العراق وسوريا وتركيا ، والجبهة المُشتعلة في الأردن مع الجانب السوري والعراقي والإسرائيلي، وبؤرة النزاع بين مصر وليبيا من جهة ، ومصر وأثيوبيا والسودان من جهة أخرى، والحرب المُستعرة بين السعودية واليمن، والجزر الإماراتية الإيرانية ، وأزمة الحدود بين العراق والكويت، والسودانين، والصومال التي ترأستْ قائمة الدول الفاشلة.
هل من قراءة أخرى لخارطة رالف بيترز الإستراتيجية وطروحات برنارد لويس وبرنارد هنري ليفي ، وبل والدبلوماسية الناعمة التي يقوم بها معهد كارتر للسلام ومعهد كارينغي ومعهد واشنطون وبروكيجنز وغيرها من مراكز صنع القرار( (think tanksفي الصراع اللامُتكافىء بين الشرق والغرب !!
التنظير للجحيم قائمٌ على قدمٍ وساق مِنْ كلا المُتصارعين ، ومِثلما لا يكونُ لرؤية استعمارية أنْ تُؤسسَ لنفسها دُونَ الرُجوع لسرديات كبرى تؤطرها ،فما كانَ لصراع اثني أو طائفي أنْ يقومَ دونَ أن يتولاه خبراء في فقه التزوير والقراءات المغلوطة للفكر الإسلامي ، فقامتْ تلك التنظيرات مقامَ النُصوص المُؤسِسَة – مِنْ الناحيةِ السوسيولجية – لتدشين فقه الدماء والعنف ، مُستندة في ذلكَ على خط مرجعي واحد ، يبدأ بابن تيمية وابن الجوزية وابن رجب الحنبلي ، مروراً بالشوكاني والصنعاني وابن عبد الوهاب والسنوسي ، ووصولاً إلى أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي ، اللذين تمخضتْ نظريتهما في إنجاب حاكمية سيد قطب.
الخطاب الإسلامي شأنه – في تجليه – شأن أي خطاب ديني أخر، يُخضع ما هو تاريخي أو مُعطى حقيقي ، لما هو لا تاريخي أو متعالي، وهو بذلك يرفض المحاولة الأنثروبولوجيا التي تسعى إلى البحث عن أليات إنتاج المعرفة و البحث عن ” الصيرورة التقديسية” التي رفعت بدورها ما هو تاريخي إلى سماء اللاتاريخ، هذه المحاولة الأنثروبولوجية لا تحاول طمس الدين أو التنكر له، بل الوصول إلى شبكة الرموز والعلامات والدوال السيميائية والسيميولوجية التي كانت محشورة في جيتو التاريخ، والتي قام الخطاب الديني بزحزحتها من مكانها التاريخي والواقعي للعلو بها إلى مستوى ما فوق التاريخ.
والحال أن التاريخ الإسلامي، ومنذ أوائل القرن الثاني للهجرة، إستحدث ما يمكن تسميته “الإنفجار الحديثي” المتعلق بتدشين مدونة كاملة من النصوص والمقولات التي تخضع الإنسان وماضيه ومستقبله ل ” حتمية و جبرية ” لا مناص من الخروج منها إلا – وبالأحرى – بالدخول إليها، ذلك أن الكون والطبيعة والتاريخ وجميع مظاهر الحياة، كانت قبل تلك الإنزياحة، واسعة ومترامية وشاسعة وأبعد من أن يُخضعها أحد، ولكن التحول الأبستمولوجي الذي حدث عصرئذٍ، وهو تدشين الحديث النبوي، وبهذا الكم الهائل، جعل اللامتناهي الذي هو الكون والطبيعة والإنسان بإطلاقيته، يخضع – خضوع النعل للنعل- لتلك المدونة – والتي وإن كانت كبيرة، إلا أنها أصغر من أن تزج على هذا النحو بالتاريخ والكون والطبيعة، هنا نحن إذا إزاء تقييد المطلق ورسم حدود شاملة للمخيال الجمعي ككل، والذي شارك بتصنيعه الفقهاء والعلماء واللغويون وغيرهم.
هذا المصنع الذي كون ما سماه جورج طرابيشي – نقداً لمحمد عابد الجابري – ونقلاً عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر لالاند، العقل المُكون، الذي كون وصنع العقلية العربية وساهم في تأبيدها بنحو أو أخر، وإستمرت تلك الصيرورة التي كونت العقل المكون إلى نهاية القرن الخامس للهجرة.
هذا الجهد البشري لصناعة “عقلية ” ولعمل قطيعة أبستمولوجية على مستوى التراث ككل، والذي أمتدت فترته من القرن الثاني إلى الخامس، يحتاج إلى جهد موازي ، وإن لم يكن مضاعف، لتجاوز – بله لعمل قطيعة أبستمولوجية مع التراث العربي دون التنكر لهذا التراث أو حتى تجاوزه، بل الإنطلاق منه وتوكيده ، بعكس ما فعلت الحداثة التي أحيت التراث الأغريقي الروماني – بضرب من مركزية أوروبية – أسسها أرنست رينان، لكنها في النهاية تجاوز ذلك التراث، والذي يجعلنا نفارق الحداثة في هذه النقطة بالذات ، هو أن التراث العربي – وبعكس التراث اليوناني والروماني والإسكندري، غني ومتنوع شأنه في ذلك شأن تنوع الحداثة نفسها.
Leave a Reply