رعد تغوج
إذا كانَ فيزفولد مايرهولد يقول بأن الجمهور هو العنصر الأهم في المسرح وهو الجدار الرابع كما يصفهُ سارتر، فهذا يعني – ضرورةً – أنْ يتلاقح السينارست مع المُتلقي في سيمفونية تخترق الجسد المكاني لتؤسسَ فضاءها الخاص في صيرورة العمل المسرحيّ نفسهُ، ولا يتأتى ذلك إلا بإشراك الجمهور في عمليات انتاج النص المرئي الذي يُشاهدونه أمامهم وفق مُثيرات شرطية تبدأ بالممثلين والديكور والملابس ولا تنتهي عند عتبة خشبة المسرح ولا تقف عندها، إنما تتعداهُ إلى كراسي المشاهدين وقدْ تصل الذروة إلى تناول البُشار والبيتزا مع المارة في الشارع!!
أدونيس يفعلُ الفِعلة نفسها لكنَ دُون تطهير المُتلقي أو التدرج في استخدام العنف اللغويّ معه، إنما يقتحمُ المنظومة السياقية لديه، وهي منظومة تتوكأُ بالنسق الرتيب الذي يُعدُ القارىء الكسول أحد أبرز تجلياته، ولا تكمنُ تلك “الفِعلة” أيضاً في وعورة اللفظ وتكثيف المعنى والعبارة “النِفّريّة” التي تفرضُ هيمنتها على النص الأدونيسيّ، وهو ما نظرَ لهُ في كتابه “زمن الشعر” الذي نسب فيه قول لأحد النقاد القدماء دُون أن يُسمي هذا الناقد أو يُحيلَ إلى مرجعِ هذه المقولة ! هذا القول هو : ” أفضلُ الشعر أعقدهُ” اه
تُحيل سرديات أدونيس إلى عبارة سقراط الشهيرة “تكلم حتى أراك” لكنَ أدونيس المُفوه بكُلِّ شاعريته لا يتكلم إلا عبر وسيط ثقيل ومُزعج ومُبعثر لذائقة المتلقي والمُرسل إليه، كما أنهُ خارجٌ عن مدار التجنيس ولا يقبل نصهُ – كما القرآن – أيّ مُحاولة تجنيسية، وهو ما نلحظهُ في ديوان “تاريخ يتمزق في جسد امرأة” .
أردفَ أدونيس هذا الديوان بعنوانٍ فرعيّ يُشكلُ عتبة سيميائية لتخريج مقاصد الخطاب والبحث عن المُضمر في نسقياته التأويلية، هذا العنوان هو : “قصيدة بأصوات مُتعدد” اه . ويبدأ النص \ المُدونة باستهلال يُتبعُ بعدها بكلمة ” صوت” وهو ما يُمهدُ الطريق إلى تناول النص \ المدونة وأخذهِ كنصحٍ مسرحيّ وما يدل على ذلك هو أن فصولاً أخرى يتبعُ العنوان فيها بكلمة “صمت” ، ويبدأ الإستهلال في النصل أو المقطوعة الأولى بشذرة :
هذه سيرةُ امرأةٍ عبدةٍ وابنها
نُفيتْ ، لا لشيءٍ سوى أنها
كسرتْ قيدها . ويُحكى
أنها زُوجتْ لنبيٍّ ،
وأنَّ ابنها
صار من بعدها نبياَ . ولكن
لم يجىء في تعاليمهِ
أنها حُررتْ
ويبدأ النص الثاني بعنوانٍ هو ” امرأة وطفلها ، رجل ، راوية ، جوقة” كأنه يُمهدُ لشخوص النص \ المُدونة ، ويتبعها بعدَ ذلك بعنوانٍ فرعيّ هو (المكان مقفر ، الوقت غسق) !! ثم تبدأ سردية كاملة تُدشنُ بالمرأة – كما هو في العنوان– وتنتهي بالجوقة مع احالات سيميائية حافة في النص وتُشكل نصوص موازية للمتن الأدونيسي نفسه، مثل (يختفي الصوت) (تحتضن طفلها) (صمت) …
المُفتاحُ الرئيس للوصول إلى القراءة العارفة informed reading هو تفسير الخطاب بالخطاب، دونَ اللجوء إلى مُثيرات خارجية كما في المسرح الشرطيّ عند مايرهولد، فأدونيس أولاً فنان وهو ما يظهر في جميع أو معظم أغلفة كتبه التي كُتب عليها بأنها من رسم أدونيس نفسه ( أتحدثُ عن طبعات دار الساقي) ، وبما أنهُ يأخذُ نفسهُ بهذه الصفة فلابد لإكمال النهاية التأويلية معه لمعرفة ماذا يُريد أن يقول.
وبعدَ اشارة \ ترمزية \ شيفرة الغلاف التي تُحيلُ إلى شخصه كفنان هنالكَ عنوان الديوان ، ومن ثم وصف لهذا الديوان بأنه “شعر” وشعر حصراً ، فلو لم ترد هذه الكلمة لقلنا بأنَّ ما نستنتطقهُ هو عبارة عن نوع من أنواع المسرح الذهنيّ، لكنهُ يُصرُ على وصف ما سنقرأ بأنه شعر ، ثم يُتبعُ ذلك بتشفيرات أخرى تدلُ على أن ما نقرأهُ هو مسرح وليس شعر !! مثل الحديث عن الشخصيات والمكان والزمان وغيرها من النصوص الحواف التي لا تأثيل لها ولا تأصيل في تاريخ أدبياتنا التجنيسية!!
يُريدنا أدونيس أن ننظرَ بعيني الفنان وأن نُصرَ على أخذ ما نتناوله برؤية كلية تتمثل بقراءة النص الشعريّ قراءة مسرحية ،وهي قراءة وعرة وحافلة بالغموض البنائي والتراكيبيّ ، كما أنّ شعريته poetic device تستحدثُ حداثتها الفريدة unique وهويتها الخاصة العصية على التجنيس والتصنيف مع مُحافظتها على النحو العربيّ الكلاسيكيّ الذي لم نرَ – فيما تناولناه – أيّ كسرٍ لقاعدةٍ نحوية أو صرفية في جميع ما كتبَ مِنْ شعرٍ ، وهذه احدى المفارقات الأخرى التي تزخرُ بها مُدونات أدونيس المختلفة والمُناشزة للسائد.
Leave a Reply