رعد تغوج (الأردن)
25 يونيو 2018
شاءتْ المُفارقة، ورُبما ما هُو أبعد منها، أن تنشر صحف إسرائيليّة، على فترات مُتباعدة، مقالا كانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرتها عام 1948، وهي رسالة بعثها العالم الشهير ألبرت إينشتاين والفيلسوفة حنا آرندت، وغيرهما من النُخب اليهوديّة، عن زيارة مناحيم بيغن إلى الولايات المُتحدة، وفحوى الرسالة احتجاجٌ صارخ على هذه الزيارة وإدانة لها، وشجب لتصرفات حزب حيروت التابع لبيغن، قائلين إنه حزب أقربُ ما يكونُ في تنظيمه وأساليبه وفلسفته السياسيّة والإجتماعيّة للأحزاب الفاشيّة والنازيّة المُتطرفة.
وتكتملُ المُفارقة بعد صُعود نجم بيغن في السبعينات، عندما أسَرّ الوزير السعوديّ، عمر السقاف، لوزير الخارجية الأميركية، هنري كيسنجر، كبير عرابي مشاريع التسويّة السياسيّة وإدارة دفة الحرب الباردة في الشرق الأوسط، إن السعوديّة تُؤمن بحق السيادة لإسرائيل على أراضيها! وذلك قبل أن يتألق أنور السادات في كلمته الإمتداحيّة في الكنيست وسط أضواءٍ صهيونيّة مهيبة سبقتها ارتداء “زعيم السلام المصريّ”، كما يلقبه أنيس منصور القبعة اليهوديّة في “ياد فاشيم”، النصب التذكاري لضحايا المحرقة الذي وضع عنده الزهور وباقات الورود وكأنَ عناق اللقاء وداع.
وقبلَ التوقيع على اتفاقيّة كامب ديفيد بعقدٍ، كان للمُفارقات السياسيّة دورٌ في مأسسة آليات التدمير الذاتي التي تنتهجها الأنظمة العربيّة، وفي تحديد مُستقبل علاقات التِبعيّة والانكسار، خصوصاً بعد نشر صُحف إسرائيليّة أيضاً جزءاً من الدور الذي لعبه يوسي ألفير، ضابط الموساد المُنخرط في الشأن اليمنيّ الذي انداحتْ فيها موجة الحرب الأهليّة بين الملكيين بقيادة الأمير البدر، المدعوم من السعوديّة وإسرائيل والولايات المُتحدة، والجمهورين المُتمردين بدعم مُباشر من مصر والسوفييت، فقد استعان السعوديون ببريطانيا، وتُبيّن سجلات الحرب والوثائق الخاصة بها الدور الذي لعبته الخدمات الجويّة الخاصة، وُحدة النُخبة في الجيش البريطانيّ، الذين طلبوا الدعم اللوجستيّ والمَعلوماتيّ من إسرائيل، من أجل دعم قوات الإمام البدر والحفاظ على النظام الملكيّ. يقولُ يوسي ألفير: “لم يهتم السعوديون بأنهم شيعة، ويُؤيدون إيران اليوم، كان من المهم بالنسبة لهم الحفاظ على نفوذهم في اليمن ومُعارضة التدخل السوفيتيّ المصريّ في اليمن”.
لم تتجرأ الأنظمة العربيّة على إعلان دعم إسرائيل قبل “كامب ديفيد”، وقد تبع ذلك توقيع عدة اتفاقيات تُشرعن ما يُسمّى “التطبيع الثقافي”، فعُدلت مناهج التعليم والدراسة.
كان رئيس المجلس اليهوديّ العالميّ، ناحوم غولدمان، ينتقدُ سياسات اليمين المُتطرف، وانحياز الولايات المُتحدة له، قائلاً: “أنا على يقين منذ عشر سنوات بأن أميركا أكثر من إسرائيل هي المسؤولة عن المأزق الإسرائيليّ الفلسطينيّ الذي يحافظُ على دوامهِ اللوبي اليهوديّ ضمن أطراف أخرى”.
تتالتْ التمزقات وتكتيكات التمزق والتدمير الذاتيّ بعدها، وكان للإزدواجيّة المِعياريّة دورٌ حاسم في إدارة القلاقل الداخليّة في الوطن العربي، منذ حقبة الرئيس نيكسون على الأقل، حيث اتسعت الفجوة بين قطبين من أقطاب صُنع القرار الأميركيّ، وهُما وزارة الخارجيّة مُتمثلة بوليام روجرز، ومستشار الأمن القوميّ الذي كانه كيسنجر عصرئذٍ، حيثُ قامت نظرة روجرز على إقامة تسويّة سياسيّة وعقد اتفاقيّة سلام، بينما ذهب كيسنجر في مُرافعتهِ إلى إشغال الإتحاد السوفيتيّ عن فيتنام، وخصوصاً بعد التدخل العسكريّ والقصف الأميركيّ المُتتالي على لاوس وكمبوديا، وتزامن ذلك مع رغبة إسرائيليّة مُلحة، وتتبنتها غولدا مائير بإزالة جمال عبد الناصر، بعد الانقلابين العسكريّين في السودان واليمن.
ويبدو أنَّ الكومبرادور النفطيّ ما يزالُ يُمارسُ هوايتهُ شبه القهريّة في تنحية أيّ تسويّة حقيقيّة للنزاعات العربيّة عبر افتعال صراعات مُرتجلة في اليمن، وإدارة القلاقل الداخليّة في مجلس التعاون الخليجيّ بالحصار على قطر، والتبشير بصفقة القرن التي تعزل الشعب الفلسطينيّ، وقطاع غزة خصوصا، عن مُحيطه العربيّ عبر تحويل القضيّة من قضية صراع بين مُقاومة ومُحتل إلى قضية إنسانيّة تتطلبُ دعماً أمميا لمشاريع إعادة الإعمار وربط دُول المِحور التابع بالمتروبول الإسرائيليّ، ولا يتمُ ذلك إلا بالإشهار وفي العلن، من دُون أدنى مُراعاة للإرث الصراعيّ والتناقضات البُنيويّة بين ما كان عليه الحال قبل “كامب ديفيد” من حرجٍ واستحياء، وبين ما تلا اتفاقية أوسلو و”غزة أريحا” و”واي ريفر” من تبجحٍ وتنازلاتٍ استرساليّة.