لا يُعرفُ للآن مصدرَ مَنبعَ ألوانِ الفنانِ الفرنسيّ كلود مونيه ومزيجها الساحر، فهل هي قادمة من الجزائر إبان إلتحاقهِ بالخدمةِ العسكرية في ذلك البلد الجنوبيّ، وما شاهدهُ مونيه في الجزائر يَختلفُ عن ما يراهُ غيرهُ من العسكريينَ وخصوصاً أن مونيه كانَ شديد الحساسية والقشعريرة إزاء الألوان، أم اصابته بالتوفئيد الذي أصبحَ كما يقول مُؤرخو الفنِّ يمزجُ الألوان لا إرادياً دُونَ شعورٍ منهُ أنهُ يُقدمُ على نحتِ أيقونات ستصبحُ مع الزمن علامات فارقة في الفنِّ ومحطاتهِ الكُبرى!.
أمَّ أنَّ اصابته بعدسة عينه في آخر عُمره جعلتهُ – كما يقولُ النقادُ أيضاً – يرى الألوان ما فوق البنفسجية التي لا يراها الناس العاديونَ. كُلَّهَا تأويلاتٍ وتفسيراتٍ للإبداع لا تتوكأ إلا بالخارج وأثره على الداخل الفنيّ، دُونَ النظر بعين الإعتبار لما مثله كلود مونيه من ابداع في مراحل حياته المُختلفة عندما كان على قيد الفن والإحساس، أو في تلكَ الأوقات التي مسكَ فيها اللهبَ برموشه بدلاً من يديهِ للتعبير عن الفنان المُلتزم لشرطهِ الوجوديّ الأول والأخير وهو الإنسانية!
تُعتبرُ الإنطباعية هي عينُ الإختراع الذي قام بابتداعهِ مونيه، وذلك عندما رسمَ لوحة أسماها : ” انطباع عن شمس مُشرقة” . بيدَ أنَّ أشهر لوحاته تلك اللوحة التي رسمها ابان الحرب العالمية الأولى التي بلغ فيها شجنُ الفنان ذروته بسبب مقتل الجنود الفرنسيين وتصفيتهم، وهي الحرب التي فقد فيها الفنان ابنه البكر، فقام برسم لوحة فيها أشجار حزينة وأخرى مُنحنية أو مُحطمة، ليكونَ بذلك أول منْ أنطقَ الأشجار حزناً في لوحة فنية.
ولوحة مونيه الأشهر هي “المرأة صاحبة المظلة” التي رسمها سنة 1875م وفيها جوهر المدرسة الإنطباعية التي تنطلق في رسمها من الإنطباع الذي تتركه الطبيعة في نفس الشاعر أو الفنان، لا عكس الواقع الطبيعيّ كما هوَ، وفي اللوحة امرأة ذات شعرٍ ورداء أبيض مُتطاير من الهواء ، وذات ملامحٍ باريسية – وليس عربية – في نهاية العشرين من عمرها، تحملُ في يدها مظلة خضراء اللون لا تفاصيل فيها، ويقف إلى الخلف من المرأة فتىً يرتدي قبعة “فلاحية” ولا ينظرُ إلا الفتاة وإنما إلى الأمام.
الملاحظة الأولى على هذه اللوحة – وعلى سائر أعمال كلود مونيه – أنهُ لا يهتمُ بالتفاصيل نهائياً، فلا يرسم السماء – مثلاً بتفاصيلها وُمحتوياتها ، وإنما يتركُ الألوان “المُغبشة” تُظهرُ حالة الجو، ولا يرسمُ الحقل والورود بتفاصيلها التي تُظهر نوع الزهور والورود التي في الحقل كما يفعلُ غيره من الإنطباعيين وأربابُ المدرسة الواقعية والتعبيرية، إنما يأتي المشهدُ كُلياً وعمومياً دُونَ تفاصيل تُذكر.
وعن استخدام مونيه للألوان فهو لا يلجأ إلى التعقيد في اللون ودرجاته، ففي لوحة المرأة صاحبة المظلة تُوجدُ ثلاثة ألوانٍ رئيسية وأطيافها المُختلفة، هي الأبيض والأخضر والبنيّ، مع التدرج في استخدام هذه الألوان في سائر اللوحة، وفي لوحة أخرى تحملُ عنوان : ” بُحيرة زنبق الماء” وقد رسمها منيه أكثر من مرة، كما أنَّ هنالك عدة لوحات له تحمل نفس العنوان ويُضافُ لها رقم أو كلمة للتمييز بينها، وأيضاً أشتهر مونيه برسم زهرة الزنبق بمختلف ألوانها : الصفراء والحمراء والبنفسج!. في هذه اللوحة يمتزجُ اللون الأخضر بجميع درجاته ليرسم حقلاً من زهور الزنبق وجسراً يعلو بُحيرة ماء، والجسرُ وباقي اللوحة تحوي لونان فقط هما الأخضر والأبيض كألوان رئيسية داخل متن اللوحة.
استطاع كلود مونيه أن يكونَ انطباعياً وذاتياً في لوحاته بحيث يعكسُ شعوره وتلقيه للوحة التي تُرسم بريشة مُؤولة للحدث الطبيعي، دون أن يتركَ فراغاً كما يفعل السورياليون والدادائيونَ في رسوماتهم المُختلفة، فالفراغ عنده طبيعة ممتدة تشملُ توسعاً للحقول والأزهار والورود!