لمْ يكنْ حُضور الفنان الإسبانيّ المُتمرد خوان ميرو ليُشاغب فنان اسبانيا الأول بيكاسو الذي يقطنُ في مدينتهِ كاتالونيا لولا نزعته السُوريالية البسيطة التي تمزجُ بين الواقعية التعبيرية والفن السوريالي المُعقد، ففي إبان الحرب الأهليّة التي اشتعلت أوارها في اسبانيا بداية القرن العشرين، وقف خوان ميرو مع نظام فرانكو وقام برسم الجداريات واللوحات المُناهضة للثورة عليه، على خلاف بابلو بيكاسو الذي كان نصيبهُ الوقوف مع الشيوعيين في ثورتهم الملتهبة في اسبانيا.
يلجأ السُورياليونَ في لوحاتهم وجدارياتهم إلى مزج الفراغ بالمكان المُمتلىء، أو إلى تركيبِ مساحتينِ مُختلفتين في الأفق معاً، وخصوصاً إذا كانت اللوحة واقعية أو ترسمُ الواقع وتُعبرُ عنهُ، وربما يصحُ ما قاله جون غيليس عن ما يُسمى ب ecotones أو التداخل بين نظامين بيئيّنِ مُختلفين معاً في الطبيعة، مثل الساحل (وكتاب غيليس عن الساحل البشريّ عموماً) الذي يتداخلُ فيه النظام المائيّ مع النظام البريّ، ولعلَ تداخل المكان في اللوحة السوريالية يُعبرُ – أكثر ما يُعبرُ – عن انكسار الزمن والهروب من اللحظة الراهنة كسياسة تمردية لجأ إليها السورياليون منذ ظهوربيانهم الأول. وخوان ميرو ليس بدعاً من هذا التوجه الذي كانتينته كاتالونيا موطأ قد للفوضويين والسورياليين وحركات التمرد.
كان الغريم الرئيسيّ لبابلو بيكاسو هو خوان ميرو ، والفرقُ بينمها لا يعودُ إلى مُجرد اختلاف الأراء والمدرسة الفنية التي ينتمي لها كلٌّ مِنهُمَا، فبيكاسو كانَ ثورياً من الخارج، بمُناصرته رفاقه الشيوعيين، وخوان ميرو كان ثورياً من الداخل، وبالإضافة إلى انطاوئيتهِ كانَ مُتناقضاً في تصرفاته وسلوكه، فقد أطلق عليه لقب “لورد انجليزي” تهكماً وسُخريةً، وهو لقب لا يتماشى مع السورياليّة التي ينتمي لها ميرو.
تنوعت التأويلات والتفسيرات حول لوحات ميرو التجريدية والسوريالية، فهو منْ جهة لم يكُ مِثلَ السوريالين يلجأُ إلى التعقيد والغموض، بله اشتغلت ريشته على مُستوى الوضوح ورسم الطبيعة، وقد كان ميرو شخصياً يُحب مدينتهُ كاتالونيا وبلدهُ اسبانيا، فتعاقد مع الطبيعة أن يعكس ما تُظهرهُ من تنوع وتعدد، كما أنّ بعض رسوماته من ناحيةٍ أخرى تحملُ النبرة والصيغة الطفولية، وقد وُصفَ أكثر من مرة بأنه رسام الطفولة، على غرار الرسام والفنان الروسيّ فلاديمير بوليغوف الذي تخصص في رسم الطفولة والأنوثة.
الإنكسار الزمنيّ الذي تعسكه اللوحات السوريالية ( وخيرُ شاهدٍ هو لوحات سلفادور دالي) لم يظهر جلياً في أعمل ميرو، باستثناء بعض اللوحات التي تكونُ – رُبما – رسما تحت تأثير البيان السورياليّ، مثل لوحة ” الحقل المحروث” ، وهي لوحة تجمعُ بين مجاليين لونيين، وتظهرُ فيها صورة للشمس وبعض الحيوانات، بالإضافة إلى رسمة “كانتورية” رُبما تُحيلُ إلى معنى الحرث، وبعض أعضاء الجسم البشريّ التي أشتهر السورياليون بتضمينها في أعمالهم مثل العين والأذن.
وفي اللوحة نفسها بعضُ الأشكال الهندسية ولوحة صغيرة عليها صورة حيوان، وكوخ كبير يأخذُ حيزاً مُتوسطاً بالنسبة إلى حجم اللوحة (66*92.7 سم) وتحتوي اللوحة المحفوظة في متحف “سولومون غاغينهام” في مانهاتن، على رموز وتأويلات سياسية، ففي اللوحة ثلاثةُ أعلام ل : “كاتالونيا، فرنسا، واسبانيا”. وهي الأعلام التي مُشهورة أثناء الحرب الأهلية الإسبانية وتُشيرُ إلى محاولة كاتالونيا – موطنِ خوان ميرة – الإنفصال عن اسبانيا.
استعانَ ميرو وتأثرَ بالموروثِ الإسبانيّ القروسطيّ، ففي لوحاته تراثٌ هائل من العادات والانعكاسات التي كانت سائدة في لوحات القرون الوسطى، وإذا رجعنا إلى لوحة “الحقل المحروث” نجدُ تأثير ذلك وضاحاً، ففيها ثلاثُ ألوان أصلية، هي الأسود والأحمر الداكن، والأصفر، ولكلِّ لونٍ من هذه الألوان درجاته المُختلفة في اللوحة، وهنالك أيضاً بعضُ الحيوانات مثل : الطيور وعددها 22 طيراً صغيراً، وهنالكَ دجاجة وفرس وقطة وأرنب، بالإضافة إلى لوحة صغيرة عليها صورة أرنب، ولم يعبث خوان ميرو بالحيوانات ويُغير في شكلها فهي واضحة وواقعية.
قفز خوان ميرو إلى مرتبة الصدارة في الفن السُورياليّ وخصوصاً بعد موت صديقه وغريمه بابلو بيكاسو، وحضيَ بشُهرة واسعة، لكنهُ فضل الإنعزال الطوعيّ والإنطواء عن أعين الصحفيين وتُجار اللوحات الفنية واشترى له بيتاً أمضى فيه بقية كياته كما يروي حفيده الفنان “خوان ميرو”.