سردية التصوف في غَوانتنامو
بقلم : رعد خالد تغوج
أولُ ما يلفتُ النظرَ في روايةِ يُوسف زيدان الجديدة “غوانتنامو” هو الانشغالُ الموسيقي على مستوى الفونتيك ، فمنذ المقدمة الأولى التي جاءت كعتبة أو تكأة للولوج في العمل السردي، ينطقُ الملفوظ الموسيقي ويُعبر عن نفسه في أصوات متقاربة مُترادفة من ذوات مخارج مُتشابهة أو صفاتٍ مُتجانسة، ليستلهمَ بذلك الكاتب خطابَ اللغةَ الصوفية أو حتى التراث العربي في شقٍ واسعٍ من سردياته الكُبرى.
بدأت العتبة بجملة “وكأنَّ كلَّ ما كانَ، ما كانَ” ، وخُتمتْ الرواية في أسطرها الأخيرة بهذه الجُملةِ مَضموناً وشكلاً، ثم تترادف العناوين في فصول الرواية بنفس الإيقاع الموسيقي، وهذا ما شكلَ نصاً موازياً ضمن نصوصُ أخرى تتقاطع في تجاويف العمل ككل، ومن هذه العناوين – النصوص – “مِحَنْ المحو” و “صُبْحُ الصَّحْوِ” و”شُجونُ المَسجُون” و”جُحورُ الرحمة” ، وتستمر إستراتيجية التسمية على ما هي عليه إلا في عنوان “الفاجعة” وهو عنوان يدل على مضمون هذا الفصل الذي تغير فيه الحدث الروائي بفجائعَ ومِحن تخص الشخصيات، لكن لماذا كسر يوسف زيدان القاعدة التي بناها بنفسه حول التسميات بهذا الفصل بالذات؟
نجد الإجابة في التوازي السردي على مستوى الحدث ، فالإيقاع تغيرَ وتطلبَ ذلك تغيير القاعدة للفت الانتباه، وبذلك تتأسس قاعدة جديدة هي:” كلما كُسرت اللغة تغيرتْ معه الأحداث”، وهذا أسلوب قرآني وتراثي بليغ، فقد كسرَ القرآن الكريم الإعراب في آيات عديدة ، مثل قوله تعالى: “إن هذان لساحران” وكلمة “الصابئين” التي وردت بالياء مرة وبالواو مرة أخرى، مما جعل الخروج عن أصل الوضع لأغراضٍ بلاغية وبيانية وأسلوبية جلبها المقام.
وسنجد هذا التوازي والتقاطع في الفصل الأخير من الرواية، حيث تتسارع الأحداث وتتحول اللغة إلى “لغة صحفية” ، لكن لماذا كسر يوسف زيدان وغيّرَ من لغته في الخاتمة؟ الحقيقة أن الكاتب وقع بما أسماه ابن رشيق القيرواني ب”إساءة حُسن التخلص” ودليلنا على ذلك عدة أمور منها أن التناص القرآني يمتد عبر الرواية كلها وبكثرة أبدع الكاتب في توظيفها ، سواءٌ على مستوى الاقتباس كما فعل في سورة الرحمن وغيرها من السور، أو بالتضمين والإذابة داخل بنية السرد واللغة نفسها، وارتفع مستوى التناص بشكليه إلى مئات المرات التي يصعب رصدها في كل فصول الرواية، بعكس الخاتمة التي تمثل مفارقة سردية narrative paradox حسب تعبير نورثروب فراي، فلم يستخدم فيها الكاتب أي تناص أو تضمين لآيات القرآن الكريم.
كما أن الحديث عن الجوانية وهمسات البطل – السجين رقم 676- مع نفسه والمنولوج الداخلي كلها تكسرت في الخاتمة، فلم تعد اللغة لغة مواجيد وعرفاء تركز على الباطن والآنا وتستلهم التفسير الصوفي للعالم كما فعل في اسم غوانتنامو نفسه ، عندما قال عنه أنه” يجمع بين الجوانية والنوم”.
ودلالة الحيرة الصوفية ظاهرة في الرواية على مستوى اللغة وعلى مستوى الحدث السردي نفسه، فقد كثرت رؤى البطل ورؤيته في تضاعيف الرواية وهو يُحدث شيخه عبر الحلم، يقول السجين أبو بلال – 676 – عندما أراد الانتقام من مُشرس الكلاب وقتله :
“سمعتُ صوتاً أعرفه يأتي من داخلي هامساً بوضوح وحكمة: يا ولدي، اعرض عن هذا ،واستغفر ربك إنه هو الغفور الودود، يا ولدي ، الكراهية تظلم القلب وتحرق الروح فلا تكن من الخاسرين، واصفح الصفح الجميل، يا ولدي لا تبكِ”.
ويقول في لغة عرفانية خالصة : “ناداني من خلف الحجاب صوتٌ قاهرُ النبرةِ، من شانهِ أن يدكَ الأركان، قال لي: اخلع نعليك. قلتُ: أين شيخي؟ قال: لا رضاعَ بعد الحولين. همتُ في المعنى وتحيَرتُ حتى فهمتُ أنَ نعليَ هما البدنُ والروح، فأحرقتُ بدني بنيران روحي ولما خمد اللهيبُ تركني في لبسً من الخلقِ الجديد.. نُوديتُ : أقبل، فاقتربتُ. اسجدْ، فجثوتُ. استقمْ، فتناثرتُ. تعالَ، فعلوتُ. ورأيتُ الدنيا كرة تدورُ في راحة يدي”.
تنبني رواية “غوانتنامو” في جزءٍ كبيرٍ منها على ضمائر المتكلم مما أضفى بعداً روحياً ذاتياً على تضاريس الحبكة الفنية واللغة الإشراقية، وجعل من هذا العمل الفني هوية أنطيولوجية قائمة بذاتها تعكس ريشة يوسف زيدان الذي أبدع في رسم لوحته ونحت لغة صوفية عرفانية متعالية (ترنستندالية) مما يذكرنا بقول الجرجاني الذي قال عن حدُ الجزالة بأنه الذي تعرفه العامة ولا تستطيع الإتيان بمثله.
Leave a Reply