التداخل المعرفي وموت التخصصية

“تخصص، تنجح فتكسب” تلك مقولة داجنة تم غرسها قهرياً من قبل السلطة التعليمية – الإجتماعية.

أصبحَ واضحاً أن مفهوم “التخصص” هو نتاج الثورة الصناعية وما جلبه اقتصاد أدم سميث من التخصص في العمل وتقسيم العمل في كتابه “ثروة الأمم” حيث أصبح العامل متخصصاً في جزئية صغيرة جداً ليبدع بها ويتطور، كذلك الحال في الأكاديمية التي أصبحت تميل إلى التخصصية. لكن ما الذي تعلمنا اياه دروس التاريخ، وخصوصاً تاريخ الأفكار والإبستمولوجيا المعاصرة حول التخصصية؟

النموذج أو البراديغم (كما بات يقال اليوم) القديم هو نموذج الموسوعية، وهنالك عدة أمثلة لهذه النماذج لعل أبرزها هو ليوناردو دي فينشي في فلورنسا، رائد عصر التنوير والمبتكر، المخترع والعالم والفنان الذي امتدت ابداعاته لتشمل ميادين الطب، التشريح، الحيوان، علم النبات، علم التشريح، الطيران السدود والمياه، الأسلحة الحربية والدفاعية (من غواصات وطيرات وقذائف) بالإضافة إلى النحت والرسم والكيمياء والميكانيكيا. يوصف ليوناردو بأنه يمتلك عقلية ثنائية left-right minded وبأنه كسر الحدود بين الفنون والعلوم.

يتم الحديث اليوم عن ما يسمى بـSTEM وهي اختصار لــ العلوم، التكنولوجيا، الهندسة والرياضيات، وتدريس هذه الحقول ما زال يخضع لبراديغمات عصر الثورة الصناعية، وهنالك بعض المعاهد تكسر حاجز التخصصية لتدرس تعقيدات البيئة العملياتية الهجينة المعاصرة، لعل أبرزها مؤسسة Santa Fe Institute التي تكرس جهودها لدراسة الأنظمة التكيفية المعقدة complex adaptive systems بما في ذلك الفيزياء والبيولوجيا والحوسبة والأنظمة الإجتماعية.

ومن الأمثلة الأخرى على نماذج متعددي أو عابري التخصصات هو الفيلسوف الصيني Shen Kuo 1031–1095، الذي عمل وزيراً للمالية والذي اشتملت تخصصاته واداعاته تخصصات الرياضيات، علم الفلك، صناعة الساعات (صنع ساعة مائية) وعلم الوقت، كذلك علم المناظر والبصريات، بالإضافة إلى دراسة التربة والنبات وغيرها من الأمور، كما تحدث – مبكراً – حول التغيير المناخي أثناء دراسته لشجر البامبو.

تتطلب تعقيدات البيئة المعاصر والأزمات المركبة التي يشهدها العالم نماذج أخرى للتحليل والتعليم، فأزمة مثل أزمة مفاعل فوكوشيما (وقد عرض مسلسل وثائقي مؤخراً يسرد التفاصيل التقنية لما حدث داخل المفاعل the days) أو أزمة مفاعل three mile island كذلك التغير المناخي أو حتى دراسة ظواهر معقدة مثل “الإنترنت” “الرقمنة” وتأثيرها السوسيولوجي على المجتمع، هذه كلها تتطلب الإبتعاد عن التخصصية، فكيف يمكن دراسة التغير المناخي وهي ظاهرة جوية، فلكية، نباتية، حيوانية، انسانية، فيزيائية، كيميائية، بيئية، بالإضافة إلى كونها ظاهرة سياسية، قانونية واقتصادية معقدة، كيف لمتخصص أن درس هذه الظاهرة؟ حتما سيدرسها بناءً على تخصصه الدقيق، وعلى منهجية مقتنع بها مسبقاً، ولن تقدم دراسته حلاً ﻷي مشكلة تتعلق بالتغير المناخي.

أصبحت نظرية النظم systems theory ونظريات cybernetics محل تقدير الأن من قبل المشتغلين بهذه الظواهر المعقدة، فمنطلقات هذه النظريات تنطلق من أن هنالك أنظمة وهنالك بيئة حافة بهذه الأنظمة systems and environment وكل نظام يحتوي عدة أنظمة فرعية sub-systems، والعلاقة بين هذه الأنظمة وبيئتها، كذلك بين الأنظمة الفرعية يخضع لعدة ارتباطات، لعل أهمها :

أولا: مفهوم الترابطية inter-connectivity بمعنى أن جميع الأنظمة ترتبط ببضعها البعض وأي تأثير على نظام، سيؤدي حتماً إلى تغيير البيئة المحيطة كلها، والمثال على ذلك تسونامي اليابان (نظام بيئي) الذي أدى إلى زلزال، مما أدى إلى كارثة فوكوشيما.

ثانياً مفهوم الإعتمادي inter-dependability بمعنى أن جميع عناصر النظام تعتمد على بعضها البعض، ولعل السلسلة الغذائية أبزر مثال على ذلك.

معظم مشاكل العالم المعاصر، وهو عالم مترابط ومعتمد على بعضه البعض، تتطلب عابري التخصصات، وتشير العديد من الدراسات وخصوصاً المتعلقة بعلم الأعصاب ودراسات الدماغ neuroscience إلى أن دراسة أكثر من تخصص تخلق الإبداع والإبتكار، كما أن التعاون بين الحقول المعرفية يثري جميع الحقول، بحيث أصبحنا نشهد العديد من التخصصيات الوليدة التي هي عبارة عن صهر عدة تخصصات معاً، لعل أبرزها علم اللسانيات الجنائية forensic linguistics وهو عبارة عن تخصص تتقاطع فيها اللغويات والقانون وعلم الجريمة وعلم النفس والتكنولوجيا.

Leave a Reply

Your email address will not be published.